Friday, July 26, 2013

رياضة النفس



• الحمد لله الذي صرف الأمور بتدبيره، و عدل تركيب الخلق فأحسن في تصويره، و زين صورة الإنسان بحسن تقويمه و تقديره، و حرسه من الزيادة و النقصان في شكله و مقاديره، و فوّض تحسين الأخلاق الى اجتهاد العبد و تشميره، و استحثه على تهذيبها بتخويفه و تحذيره، و سهل على خواص عباده تهذيب الأخلاق بتوفيقه و تيسيره، و امتنَّ عليهم بتسهيل صعبه و عسيره، و الصلاة و السلام على محمد عبد الله و نبيه و حبيبه و صفيه و بشيره و نذيره، الذي كان يلوح أنوار النبوة من بين أساريره، و يستشرف حقيقة الحق من مخايله و تباشيره، و على آله و أصحابه الذين طهروا وجه الإسلام من ظلمة الكفر و دياجيره، و حسموا مادة الباطل فلم يتدنسوا بقليله ولا كثيره.

أما بعد: فالخلق الحسن صفة سيد المرسلين، و أفضل أعمال الصديقين، و هو على التحقيق شطر الدين، و ثمرة مجاهدة المتقين، و رياضة المتعبدين. 

و الأخلاق السيّئة هي السموم القاتلة و المهلكات الدامغة و المخازي الفاضحة، و الرذائل الواضحة و الخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين، و هي الأبواب المفتوحة الى نار الله تعالى الموقدة التي تطّلع على الأفئدة.

كما أن الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب الى نعيم الجنان و جوار الرحمن، و الأخلاق الخبيثة أمراض القلوب و أسقام النفوس إلا أنه مرض يفوّت حياة الأبد، و أين منه المرض الذي لا يفوّت إلا حياة الجسد؟ 

و مهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج للأبدان و ليس في مرضها إلا فوت الحياة الفانية، فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب و في مرضها فوت حياة باقية أولى، و هذا النوع من الطب واجب تعلمه على كل ذي لب؛ إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام لو أهملت تراكمت و ترادفت العلل و تظاهرت، فيحتاج العبد الى تأنق في معرفة علمها و أسبابها ثم الى تشمير في علاجها و إصلاحها، فمعالجها هو المراد بقوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا" [الشمس ٩] و إهمالها هو المراد بقوله: "وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" [الشمس ١٠]. {١}


قال ﷺ : 

"إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ"

و في رواية أخرى

"إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالح الأخلاقِ" (٢)



فكيف يتم ما بُعِث اليه الرسول ﷺ ؟



• أن بعض من غلبت البطالة عليه استثقل المجاهدة و الرياضة و الاشتغال بتزكية النفس و تهذيب الأخلاق، فلم تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره و نقصه و خبث دخلته، فزعم أن الأخلاق لا يتصوّر تغييرها، فإن الطباع لا تتغير.

و استدل فيه بأمرين:

أحدهما: أن الخُلُق هو صورة الباطن كما أن الخَلْق هو صورة الظاهر. فالخلقة الظاهرة لا يقدر على تغييرها فالقصير لا يقدر أن يجعل نفسه طويلاً، و لا الطويل يقدر أن يجعل نفسه قصيراً، ولا القبيح يقدر على تحسين صورته، فكذلك القبح الباطن لا يمكن تغيره كالقبح الظاهر.

و الثاني: أنهم قالوا: حسن الخلق يقمع الشهوة و الغضب. و قد جرّبنا ذلك بطول المجاهدة و عرفنا ان ذلك من مقتضى المزاج و الطبع و ان الشهوة و الغضب أمور لا تنقطع على الآدمي مهما بلغ من الجهاد، فاشتغاله به تضييع زمان بغير فائدة. فإن الحل هو الصد عن كل ما يغضب الانسان و يستثير شهوته و هذا أمر مستحيل.

فنقول: لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا و المواعض و التأديبات، و لما قال رسول الله ﷺ: "حسنوا أخلاقكم" (٣)، و كيف ينكر هذا في الآدمي و تغيير خلق البهيمة ممكن؛ إذ ينقل البازي من الاستيحاش الى الأنس، و الكلب من شره الأكل الى التأدب و الإمساك و التخلية، و الفرس من الجماح الى السلاسة و الانقياد. و كل ذلك تغيير للأخلاق. {٤}


فبعد ما تم برهان قبول الأخلاق للتغيير فإن اكتساب الخلق الحسن و الإعتدال عن سوء الخلق و قوة الغضب و الشهوة لها أسباب، و هذه الأسباب صنّفت على وجهين :


١- جود إلهي و كمال فطري.
٢- اكتساب الأخلاق بالمجاهدة و الرياضة. (٥)


أما • الوجه الأول: جود إلهي و كمال فطري، بحيث يخلق الإنسان و يولد كامل العقل حسن الخلق قد كفي سلطان الشهوة و الغضب، بل خُلِقَتا مُعْتَدِلَتين منقادتين للعقل و الشرع، فيصير عالماً بغير تعليم و مؤدبا بغير تأديب، كعيسى ابن مريم، و يحيى بن زكريا عليهما السلام، و كذا سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. ولا يبعد أن يكون في الطبع و الفطرة ما ينال بالاكتساب، فرب صبي خُلِق صادق اللهجة سخياً جرياً، و ربما يخلق بخلافه، فيحصل ذلك بالاعتياد و مخالطة المُتَخَلِّقين بهذه الأخلاق، و ربما يحصل بالتعلم.

الوجه الثاني: اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة و الرياضة، و أعني به حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب. فمن أراد مثلا أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه: أن يتكلّف تعاطي فعل الجواد و هو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه و يواظب عليه تكلفاً مجاهداً نفسه فيه حتى يصير ذلك طبعا له و يتيسر عليه فيصير به جواداً، وكذلك من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع و قد غلب عليه الكبر فطريقه: أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة و هو فيها مجاهد نفسه و متكلّف الى أن يصير ذلك خلقاً له و طبعاً فيتيسر عليه. {٦}

و كذلك يفعل في كل خلق يطلبه لنفسه تكريما لها، و لكن يصعب على المرء أحيانا كشف ما ذم من خلقه و ما ساء من أطباعه، فهل من منهج يبيّن للإنسان ما خفي عليه من عيوبه ؟

• اعلم: أن الله عز و جل إذا أراد بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، و لكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم؛ يرى أحدهم القذى في عين أخيه و لا يرى الجذع في عين نفسه. فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق:



الطريق الأول:

أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات، و يحكّمه في نفسه و يتبع إشاراته في مجاهدته. 

و هذا شأن المريد مع شيخه و التلميذ مع أستاذه، فيعرّفه أستاذه و شيخه عيوب نفسه و يعرفه طريق علاجه. و هذا قد عز في الزمان وجوده.



الطريق الثاني:

أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً، فينصّبه رقيباً على نفسه ليلاحظ أحواله و أفعاله، فما كره من أخلاقه و أفعاله و عيوبه الباطنة و الظاهرة ينبهه عليه، فهكذا كان يفعل الأكياس و الأكابر من أئمة الدين.

كان عمر رضي الله عنه يقول: "رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي." 



الطريق الثالث:

أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه عين السخط تبدي المساويا.

و لعل انتفاع الإنسان بعدوٍّ مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه و يمدحه و يخفي عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على العدوّ و حمل ما يقوله على الحسد، و لكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه؛ فأن مساويه لا بدّ و أن تنتشر على ألسنتهم.



الطريق الرابع:

أن يخالط الناس فكل ما رآه مذموماً فيما بين الخلق فليطالب نفسه به و ينسبها إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن، فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه، و يعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى.

فما يتّصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه، فليتفقد نفسه و يطهرها من كل ما يذمه من غيره و ناهيك بهذا تأديباً، فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدِّب. {٧}


ان هلاك ابن آدم لا يكون الا من اتّباع شريعة الهوى، فمن لم يكافح نفسه و هواه فقد عصى، و من تبع الله و رسوله فقد سار على درب الهدى، و فيه قد نجا.

قال تعالى: "إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى." [طه١٥-١٦]

و قال سبحانه: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى." [النازعات٤٠-٤١]

و إن كانت للعيوب و المساوئ دلالات و منهج يوضحها، فإن للفلاح آيات كريمات مبشرات لأهلها، قال تعالى في تعريف المفلحين المؤمنين:

 "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ." [المؤمنون١-١١].


هذا الفلاح و هذا الصلاح هو غاية و مطلب العباد في هذه الحياة، و لكل مطلب ثمن يقدمه الطالب لمطلبه، و ثمن الصلاح هو الجهاد و الصبر عليه حتى يُنال، فما من عبد الا و يُفتن ليُختبر في صبره و إيمانه، قال تعالى: 

"الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ." [العنكبوت١-٣]

و ما المجد الا الفوز بالآخرة و اتّقاء النار.

قال أبو تمّام الشاعر العباسي حبيب بن أوس الطائي:

لا تحسبنّ المجد تمراً أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر


فلا نهمل العيوب التي فينا فتكبر، ولا نهمل تربية أبناؤنا فهم الأمانة التي نسأل عنها يوم الدين، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا" [التحريم٦] فقلوب الصبيان جوهرة نفسية ساذجة خالية عن كل نقش و صورة، قابلة لكل ما ينقشه والديه فيها، و هو مائل الى كل ما يمال به إليه، قال رسول الله ﷺ : "ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ، ثم يقول : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }" (٨)

فلا بد من رفع السد و الحجاب الذي بينك و بين الحق، فإن حرمان الخلق من الحق سببه تراكم الحجب و وقوع السد على الطريق، قال تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" [يس٩].

و السد بين طالب الحق و الحق له أربعة أطراف:

المال و الجاه و التقليد و المعصية (٩)

و إنما يرفع حجاب المال بالخروج عن سيطرة المال عليه، و لا يتحقق ذلك الا بالإنفاق لوجه الله تعالى و شكره بما هو عليه من نعمة بصدقة تقدمها يمينه لا تعلم عنها شماله.

و يرفع حجاب الجاه بالبعد عن موضع الجاه بالتواضع، و يرفع حجاب التقليد بأن يترك التعصب للمذاهب، و أن يصدق بمعنى قوله "لا إله إلا الله محمد رسول الله" تصديق إيمان، فلا يكون له هدف يطغي على هذا المعنى و المراد منه.

و أما المعصية فهي حجاب لا يرفعه إلا التوبة و الخروج من المظالم، و تصميم العزم على ترك العودة لها و تحقيق الندم على ما مضى.


أسأل الله العلي القدير، الكبير العزيز، ان يهدينا لأحسن الخلق، و أجمل الأعمال، و أطيب القول

و أصلي على سيدي رسول الله و على آله الطيّبين الطاهرين و أسلم التسليم الكثير

و الحمد لله رب العالمين







طارق القائد
















ملاحظة : 

الإقتباس يكون من علامة النقطة • الى علامة القوسين و الرقم {#}

المراجع :

{١} مقتبس من احياء علوم الدين جزء من مقدمة كتاب رياضة النفس - ابو حامد الغزالي. 

(٢) الراوي:أبو هريرة
المحدث:الألباني
المصدر: السلسلة الصحيحة
الصفحة أو الرقم: 45
خلاصة حكم المحدث: صحيح

(٣) حديث "حسنوا اخلاقكم" أخرجه ابو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث معاذ "يا معاذ حسن خلقك للناس" منقطع و رجاله ثقات.

و ان كان هذا الحديث لا يستدل به لإنقطاعه فإن الرسول ﷺ أمر اهله من قريش و ابنته فاطمة رضي الله عنها بإنقاذ انفسهم من النار ، فكيف ينقذ المرء نفسه دون ان يملك القرار بتغيير اعماله من البطلان الى الصلاح ؟

قال ﷺ : يا مَعْشَرَ قريشٍ ! أَنْقِذُوا أنفسَكم من النارِ ، فإني لا أملكُ لكم من اللهِ ضَرًّا ولا نفعًا ، يا مَعْشَرَ بني عبدِ منافٍ ! أَنْقِذُوا أنفسَكم من النارِ ؛ فإني لا أملكُ لكم من اللهِ ضَرًّا ولا نفعًا ، يا مَعْشَرَ بني عبدِ المُطَّلِبِ ! أَنْقِذُوا أنفسَكم من النارِ ؛ فإني لا أملكُ لكم من اللهِ ضَرًّا ولا نفعًا ، يا فاطمةُ بنتَ مُحَمَّدٍ ! أَنْقِذِي نفسَكِ من النارِ ؛ فإني لا أملكُ لكِ ضَرًّا ولا نفعًا ، إنَّ لكِ رَحِمًا ، وسَأَبُلُّها ببَلَالِها

الراوي: أبو هريرة
المحدث:الألباني
المصدر: صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 7983
خلاصة حكم المحدث: صحيح

{٤} اقتباس بتصرف من احياء علوم الدين كتاب رياضة النفس من بيان قبول الأخلاق للتغيير بطريق الرياضة - ابو حامد الغزالي

(٥) هذين التصنيفين من ابداع الإمام ابو حامد الغزالي رحمه الله.

{٦} مقتبس من احياء علوم الدين كتاب رياضة النفس من بيان السبب الذي ينال حسن الخلق على الجملة - ابو حامد الغزالي.

{٧} مقتبس من احياء علوم الدين كتاب رياضة النفس من بيان الطريق الذي يعرف به الإنسان عيوب نفسه، مع اختصار الطريق الثاني و الاكتفاء بمثل عمر رضي الله عنه - ابو حامد الغزالي. 

(٨) الراوي: أبو هريرة
المحدث:البخاري
المصدر: صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 4775
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]

(٩) تصنيف الإمام ابو حامد الغزالي رحمه الله.

Friday, July 19, 2013

القلوب و الأقدار في عالم الأسرار



الحمد لله الذي تتحيّر دون إدراك جلاله القلوب و الخواطر، و تُدْهَش في مبادئ إشراق أنواره الأحداق و النواظر، المُطَّلِع على خفيّات السرائر، العالم بمكونات الضمائر، المستغني في تدبير مملكته عن المشاور و المزاور، مقلب القلوب و غفار الذنوب، و ستار العيوب، و مُفَرِّج الكروب.

و الصلاة على سيد المرسلين، و جامع شمل الدين، و قاطع دابر الملحدين، و على آله الطيّبين الطاهرين، و سلم كثيراً. *

اما بعد،

فقد يسأل الإنسان أحياناً أسئلة تفكرية لايجد لها الجواب الشافي للغليل، فالبعض يلمك إيمانا يغنيه عن الدليل، فلا خوف عليهم، و لكن البعض قد يقع في شباك الشيطان الرجيم.

و من ما يكثر السؤال فيه هو ما يتعلق بالقضاء و القدر، و ما يخص التقدير و التخيير و التدبير و التسيير، و من هذه الأسئلة سؤال تتمحور عليه كل تلك الأفكار:

كيف يكون الإنسان مخيّرا و قد قدرت له حياته كاملة من الوالدة الى الممات من عند الله عز و جل ؟

أين التخيير في ذلك ؟

و قد تكلم الكثير من العلماء الأقدمون و الحاضرون في تلك القضية، و قد أدلى كلٌ بدلوه، و لكنني لم أقف على كلام يشفي ما في صدري من حيرة، حتى قرأت كتاباً فيه من الكلام ما يسحر الأذهان من دقة البيان و نورٌ للبصيرة، كتابٌ للإمام الفيلسوف البارع في الجدل و المنطق و المذهب و الخلاف، أنْظَر أهل زمانه و أوحد أقرانه، هو الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله.

فقد شرح لنا في كتاب "شرح عجائب القلب" من جموعة كتب "إحياء علوم الدين" ما ييسر لنا فهم هذا الإختلاف و هذه القضية من خلال معرفة القلب و عجائبه، فمما قرأت و فهمت سأشرح لكم ما في ذهني من أفكار تبلورت و نضجت من بعد طول سنين، وذلك مع اقتباس بعض الجمل من فضيلة الإمام رحمه الله.





نبدأ بما هو القلب ؟




إن للقلب معنيين ،



معنى مادي
 
و
 
معنى روحاني



اما المادي فهو اللحم الصنوبري الشكل، المودع في الجانب الأيسر من الصدر ، و أما المعنى الروحاني فهو لطيفة ربانية روحانية، لها تعلق بهذا القلب الجسماني، و تلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، هي ما يجعل الإنسان يدرك و يعلم و يعرف، و هذا القلب الروحاني هو المخاطب من عند الرحمن و هو المعاقب و المعاتب و المطالب. و علاقته مع القلب الجسماني امر حيّر اكثر عقول الخلق في ادراك وجه علاقته، فإن تعلق القلبين كتعلق الآلة بمستعملها، فإن كان استعماله ايجابي فستؤدي الآلة عملا إيجابيا، و ان كان العكس فردة الفعل من الآلة ستكون سلبية حسب ما تلقت من مستعملها أوامر و ارادة سلبية.

إن اعمال جوارح الانسان من اليدين و الرجلين و السان و النظر و غيرها من اعمال الجوارح هي ردة فعل لما يحمله القلب من الإيمان و الإدراك الايجابي بخالق القلب، فقد تخيّر الإنسان لا بأعمال جوارحه المقدرة المحسومة من عند الخالق، بل بأمرين يتعلقان بالقلب الروحاني كما قال سبحانه في كشف ماهية الإنسان بسورة الإنسان " هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا " 

الانسان (١-٣)

فالقلب هو الإناء الذي تملأه ارادة النفس "القلب الروحاني"  شكرا ام كفرا، ان ملئ شكرا انعكس ذالك على جوارحه بالعمل الصالح المقدر من الله بسبب شكر العبد، و ان ملئ كفرا و جحدا و صد عن الذكر و ما شابه ذلك من تخلي عن الخالق، انعكس ذالك على الجوارح بالعمل المهلك للعبد بتقدير من الله لما سبق عليه من كفر و جحد.



إذ كل إناء ينضح بما فيه ...



التخيير للإنسان هو بين أمرين لا ثالث لهما..

شكر ... يثاب عليه عملا صالحاً

ام

كفرا ... يجزى عليه عملا يخلده في نار جهنم

و كل ما دون الشكر و الكفر هو امر مقدر من عند الله لا يستطيع تغيره ايا كان سوا جلاله بدعاء عباده له و استغفارهم و طلبهم و توسلهم له.


فالإنسان ليس بيده الا دعاء يرد قضاء قد ابتلي به، و شكر لنعمة استشعرها فيزداد بشكره،

أو كفر بعد ابتلاء يزيد ناره حطبا، و جحد لنعمة تزال منه بإذن الله ان شاء أم يفتنه بها لآخر رمق من الدنيا ليهلكه بجحده و كفره.





اللهم طهر قلوبنا من الشوائب المهلكات 

قال الخليل لربه:

"وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ"

سورة الشعراء (٨٧-٨٩)

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"

سورة الانفال (٢٤)

نقاء القلب هو نجاة الانسان،  و من عرف قلبه عرف نفسه و من عرف نفسه عرف ربه ، و من جهل قلبه جهل نفسه و من جهل نفسه جهل ربه، فإن الله يحول بين المرء و قلبه 
، و حيلولته بأن يمنعه من مراقبة القلب و مشاهدته، و يمنعه من معرفة صفاته و كيفية تقلبه بين اصبعين من اصابع الرحمن، فتارة يهبط الى اسفل السافلين و ينخفض الى افق الشياطين، و تارة يرتفع الى أعلى عليين و يرتقي الى عالم الملائكة المقربين. 


الجنة و اتقاء النار يتطلبان الأعمال الصالحة...

الأعمال الصالحة تتطلب ثبات القلب و اتقاء التقلب بين الصلاح و فجور...

ثبات القلب و اتقاء التقلب يتطلب الذكر و الشكر الغير المنقطعين ...

الذكر و الشكر الغير منقطع يحتاج  الرضى بمقتضى الحال و الصبر في البلاء ...

الرضى و الصبر يتطلبان ...


                       "اليقين" 



قال ﷺ : عليكم بالصِّدْقِ ؛ فإنَّهُ مع البِرِّ ، وهُما في الجنةِ ، وإيَّاكمْ والكذِبَ ، فإنَّهُ مع الفُجورِ ، وهُما في النارِ ، وسَلُوا اللهَ اليقينَ والمُعافاةَ ؛ فإنَّهُ لمْ يُؤْتَ أحدٌ بعدَ اليقينِ خيْرًا من المُعافاةِ ، ولا تَحاسَدُوا ، ولا تَباغَضُوا ، ولا تَقاطَعُوا ، ولا تَدابَرُوا ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا ، كَمَا أمرَكُمُ اللهُ


الراوي:  أبو بكر الصديق المحدث:الألباني
المصدر: صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 4072
خلاصة حكم المحدث: صحيح

قال تعالى :

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"

سورة الحشر (١٨-١٩)



في ذلك قد تبين ما القلب و كيف يصنع القلب حياة الانسان في دنياه و آخرته، لكن كيف يتم تسييس هذا القلب و معالجته ؟!

سيكون ذلك موضوع المقالة في الجمعة المقبلة بعنوان"رياضة النفس"



اسأل الله ان يجمعني بكم في فردوسه الأعلى



و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله الطيّبين الطاهرين

و الحمد لله رب العالمين







طارق القائد










*المقدمة مقتبسة من كتاب عجائب القلب بمجموعة كتب احياء علوم الدين للامام ابو حامد الغزالي رحمه الله.