﷽
الحمد لله الذي تتحيّر دون إدراك جلاله القلوب و الخواطر، و تُدْهَش في مبادئ إشراق أنواره الأحداق و النواظر، المُطَّلِع على خفيّات السرائر، العالم بمكونات الضمائر، المستغني في تدبير مملكته عن المشاور و المزاور، مقلب القلوب و غفار الذنوب، و ستار العيوب، و مُفَرِّج الكروب.
و الصلاة على سيد المرسلين، و جامع شمل الدين، و قاطع دابر الملحدين، و على آله الطيّبين الطاهرين، و سلم كثيراً. *
اما بعد،
فقد يسأل الإنسان أحياناً أسئلة تفكرية لايجد لها الجواب الشافي للغليل، فالبعض يلمك إيمانا يغنيه عن الدليل، فلا خوف عليهم، و لكن البعض قد يقع في شباك الشيطان الرجيم.
و من ما يكثر السؤال فيه هو ما يتعلق بالقضاء و القدر، و ما يخص التقدير و التخيير و التدبير و التسيير، و من هذه الأسئلة سؤال تتمحور عليه كل تلك الأفكار:
كيف يكون الإنسان مخيّرا و قد قدرت له حياته كاملة من الوالدة الى الممات من عند الله عز و جل ؟
أين التخيير في ذلك ؟
و قد تكلم الكثير من العلماء الأقدمون و الحاضرون في تلك القضية، و قد أدلى كلٌ بدلوه، و لكنني لم أقف على كلام يشفي ما في صدري من حيرة، حتى قرأت كتاباً فيه من الكلام ما يسحر الأذهان من دقة البيان و نورٌ للبصيرة، كتابٌ للإمام الفيلسوف البارع في الجدل و المنطق و المذهب و الخلاف، أنْظَر أهل زمانه و أوحد أقرانه، هو الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله.
فقد شرح لنا في كتاب "شرح عجائب القلب" من جموعة كتب "إحياء علوم الدين" ما ييسر لنا فهم هذا الإختلاف و هذه القضية من خلال معرفة القلب و عجائبه، فمما قرأت و فهمت سأشرح لكم ما في ذهني من أفكار تبلورت و نضجت من بعد طول سنين، وذلك مع اقتباس بعض الجمل من فضيلة الإمام رحمه الله.
نبدأ بما هو القلب ؟
إن للقلب معنيين ،
معنى مادي
و
معنى روحاني
اما المادي فهو اللحم الصنوبري الشكل، المودع في الجانب الأيسر من الصدر ، و أما المعنى الروحاني فهو لطيفة ربانية روحانية، لها تعلق بهذا القلب الجسماني، و تلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، هي ما يجعل الإنسان يدرك و يعلم و يعرف، و هذا القلب الروحاني هو المخاطب من عند الرحمن و هو المعاقب و المعاتب و المطالب. و علاقته مع القلب الجسماني امر حيّر اكثر عقول الخلق في ادراك وجه علاقته، فإن تعلق القلبين كتعلق الآلة بمستعملها، فإن كان استعماله ايجابي فستؤدي الآلة عملا إيجابيا، و ان كان العكس فردة الفعل من الآلة ستكون سلبية حسب ما تلقت من مستعملها أوامر و ارادة سلبية.
إن اعمال جوارح الانسان من اليدين و الرجلين و السان و النظر و غيرها من اعمال الجوارح هي ردة فعل لما يحمله القلب من الإيمان و الإدراك الايجابي بخالق القلب، فقد تخيّر الإنسان لا بأعمال جوارحه المقدرة المحسومة من عند الخالق، بل بأمرين يتعلقان بالقلب الروحاني كما قال سبحانه في كشف ماهية الإنسان بسورة الإنسان " هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا "
الانسان (١-٣)
فالقلب هو الإناء الذي تملأه ارادة النفس "القلب الروحاني" شكرا ام كفرا، ان ملئ شكرا انعكس ذالك على جوارحه بالعمل الصالح المقدر من الله بسبب شكر العبد، و ان ملئ كفرا و جحدا و صد عن الذكر و ما شابه ذلك من تخلي عن الخالق، انعكس ذالك على الجوارح بالعمل المهلك للعبد بتقدير من الله لما سبق عليه من كفر و جحد.
إذ كل إناء ينضح بما فيه ...
التخيير للإنسان هو بين أمرين لا ثالث لهما..
شكر ... يثاب عليه عملا صالحاً
ام
كفرا ... يجزى عليه عملا يخلده في نار جهنم
و كل ما دون الشكر و الكفر هو امر مقدر من عند الله لا يستطيع تغيره ايا كان سوا جلاله بدعاء عباده له و استغفارهم و طلبهم و توسلهم له.
فالإنسان ليس بيده الا دعاء يرد قضاء قد ابتلي به، و شكر لنعمة استشعرها فيزداد بشكره،
أو كفر بعد ابتلاء يزيد ناره حطبا، و جحد لنعمة تزال منه بإذن الله ان شاء أم يفتنه بها لآخر رمق من الدنيا ليهلكه بجحده و كفره.
اللهم طهر قلوبنا من الشوائب المهلكات
قال الخليل لربه:
"وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ"
سورة الشعراء (٨٧-٨٩)
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"
سورة الانفال (٢٤)
نقاء القلب هو نجاة الانسان، و من عرف قلبه عرف نفسه و من عرف نفسه عرف ربه ، و من جهل قلبه جهل نفسه و من جهل نفسه جهل ربه، فإن الله يحول بين المرء و قلبه
، و حيلولته بأن يمنعه من مراقبة القلب و مشاهدته، و يمنعه من معرفة صفاته و كيفية تقلبه بين اصبعين من اصابع الرحمن، فتارة يهبط الى اسفل السافلين و ينخفض الى افق الشياطين، و تارة يرتفع الى أعلى عليين و يرتقي الى عالم الملائكة المقربين.
الجنة و اتقاء النار يتطلبان الأعمال الصالحة...
الأعمال الصالحة تتطلب ثبات القلب و اتقاء التقلب بين الصلاح و فجور...
ثبات القلب و اتقاء التقلب يتطلب الذكر و الشكر الغير المنقطعين ...
الذكر و الشكر الغير منقطع يحتاج الرضى بمقتضى الحال و الصبر في البلاء ...
الرضى و الصبر يتطلبان ...
"اليقين"
قال ﷺ : عليكم بالصِّدْقِ ؛ فإنَّهُ مع البِرِّ ، وهُما في الجنةِ ، وإيَّاكمْ والكذِبَ ، فإنَّهُ مع الفُجورِ ، وهُما في النارِ ، وسَلُوا اللهَ اليقينَ والمُعافاةَ ؛ فإنَّهُ لمْ يُؤْتَ أحدٌ بعدَ اليقينِ خيْرًا من المُعافاةِ ، ولا تَحاسَدُوا ، ولا تَباغَضُوا ، ولا تَقاطَعُوا ، ولا تَدابَرُوا ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا ، كَمَا أمرَكُمُ اللهُ
الراوي: أبو بكر الصديق المحدث:الألباني
المصدر: صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 4072
خلاصة حكم المحدث: صحيح
قال تعالى :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"
سورة الحشر (١٨-١٩)
في ذلك قد تبين ما القلب و كيف يصنع القلب حياة الانسان في دنياه و آخرته، لكن كيف يتم تسييس هذا القلب و معالجته ؟!
سيكون ذلك موضوع المقالة في الجمعة المقبلة بعنوان"رياضة النفس"
اسأل الله ان يجمعني بكم في فردوسه الأعلى
و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله الطيّبين الطاهرين
و الحمد لله رب العالمين
طارق القائد
*المقدمة مقتبسة من كتاب عجائب القلب بمجموعة كتب احياء علوم الدين للامام ابو حامد الغزالي رحمه الله.
No comments:
Post a Comment