Friday, September 6, 2013

شيعة في سعير و سنة في زمهرير



﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا. قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا. مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا.﴾ (١)

و الصلاة و السلام على رسول الله البشير النذير بالكتاب المبين، جامع شمل الدين، قاطع دابر الملحدين، شفيع يوم الدين، لأصحاب الكبائر من أمته و الغافلين.

أما بعد،

فقد أنجز الله سبحانه عهده، و نصر عبده، و هزم الأحزاب وحده، في يوم كان على المسلمين شديد فرده، و لولا أن لم يكونوا في جماعة واحدة، و صف واحد، و قلب واحد يملأه الإيمان بالله القادر على كل شيء، لما أيدهم الله بنصره. 

﴿ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. ﴾ (٢)

إن التفرق الذي تعيش به أمة محمد ﷺ اليوم هو سبب الوهن المهين، كيف ينصر الله أمة يقتل مسلموها مسلميها؟! أمة يبغض شيعتها سنتها و سنتها تبغض شيعتها و كلن منهم له بداخله مذهب ينتمي له و يتعصب له ؟! أمة متفرقة يحكمها التعصب المذهبي على حساب العقل و كتاب الله الذي يقرأونه ولا يتجاوز تراقيهم ؟! فواقع الحال الأليم لا يبشر بالنصر المبجل بل الى هزيمة شنعاء لأمة فككها أئمتها، و فرق شملها دعاتها،  فتعصب كلن في مذهبه على حساب الدين الواحد الرافض للتشتت و التفرق و التمذهب، و ما أقوله في هذه الأمة التي مرضت بعد صحة هزة الأرض بعدلها و قوتها ليس تحليلا و منطق و رأي فحسب، بل نبأ من سيد البشر إمام المرسلين الذي لا ينطق عن الهوى إن هو الا وحي يوحى، فقد قال ﷺ :

"غيرُ الدجالِ أخوَفُ على أُمَّتِي منَ الدَّجالِ ، الأئِمَّةُ المضِلُّونَ" (٣)

و قال ﷺ "إِنَّهُ سيكونُ عليْكُمْ أَئِمَّةٌ تَعْرِفونَ وتُنْكِرونَ ، فَمْنَ أنَكَرَ فَقَدْ بَرِيءَ ، ومَنْ كَرِهَ فقدْ سَلِمَ". (٤)

و قال ﷺ "سيكونُ في أمَّتِي اختلافٌ وفُرْقَةٌ ، قومٌ يحسِنونَ القيلَ ؛ ويُسيئونَ الفِعْلَ ، يقرأونَ القرآنَ لَا يُجاوِزُ تراقِيَهم ، يَمْرُقونُ مِنَ الدينِ مروقَ السهمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، لَا يرجِعونَ حتَّى يرتَدَّ السهمُ على فُوقِهِ ، هم شرُّ الخلْقِ والخليقَةِ ، طُوبَى لِمَنْ قتَلَهم وقتَلُوهُ ، يُدْعَوْنَ إلى كتابِ اللهِ ؛ وليسوا منا في شيءٍ ، مَنْ قاتَلَهم كان أوْلى باللهِ منهم ، قالوا : يا رسولَ اللهِ ! ما سيماهم ؟ ! قال : التحليقُ" (٥)


و قال ﷺ في من فتن بهم و اتبعهم بغير هدى و لا كتاب منير:

"مَن قاتَلَ تحتَ رايةٍ عُمِّيَّةٍ ، يُقاتلُ عصبيَّةً ، ويغضَبُ لعصبيَّةٍ ، فَقِتْلَةٌ جاهليَّةٌ" (٦)

و قال ﷺ "من قَتل في عِمِّيَّةٍ أو عصبيةٍ بحجرٍ أو بسوطٍ أو عصًا فعليه عقلُ الخطأ ، ومن قَتل عمدًا فهو قودٌ ، ومن حالَ بينه وبينه ، فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ ، لا يُقبلُ منه صرفٌ ولا عدلٌ" (٧)

عباد الله اتقوا الله سنة و شيعة، ولا تركنوا لدعاة و أمراء و شيوخ و سادة غرتهم أنفسم و مالوا ميلا جسيما عن الحق بتحريضهم لقتال المسلمين بعضهم بعضا، و تذكروا ان فتنة آخر الزمان فتنة عظيمة لا تنجلي الا بالصبر و الوعض و التفكر حتى يأتي الله سبحانه بأمره و كونوا كما دعاكم الله سبحانه فقال:

﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. ﴾ (٨)

فقد أنذركم الله و جعل لكم عقول لتفرقوا بين الحق و الباطل، و قال سبحانه لكم جميعا :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. ﴾ (٩)

فالعقل العقل ! أبعد هذا البيان الصريح يميل أحدكم لرجل يدعوا باسم الله لنفسه او لحزبه أو لمصلحة تغشى أعينكم ؟!

أيها الناس، إن الله عز وجل خلقكم من نفس واحده و رزقكم من حيث لا تعلمون، فكونو ﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. ﴾ (١٠)

قال تعالى :

﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ. أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ. ﴾ (١١)

فلبوا نداء الله تعالى حين دعاكم فقال:

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. ﴾ (١٢)


اللهم إني أشهدك و أشهد حملة عرشك أني أشهد أنك انت الله لا إله الا انت و ان محمدا عبدك و رسولك، و أشهدك أني بريء من كل أمر تفرقت به أمة رسولك ﷺ 


و الصلاة على سيد المرسين و إمام الصديقين
و الحمد لله رب السماوات و رب العرش العظيم







طارق القائد









المراجع:

١- سورة الكهف ١-٣
٢- سورة الأحزاب ١٧
٣- الراوي: أبو ذر الغفاري
المحدث:الألباني
المصدر: صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 4165
خلاصة حكم المحدث: صحيح
٤- الراوي: أم سلمة هند بنت أبي أمية المحدث:الألباني
المصدر: صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 2395
خلاصة حكم المحدث: صحيح
٥- الراوي:  أبو سعيد الخدري المحدث:الألباني
المصدر: تخريج مشكاة المصابيح
الصفحة أو الرقم: 3474
خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح
٦- الراوي: جندب بن عبدالله
المحدث:الألباني
المصدر: صحيح النسائي
الصفحة أو الرقم: 4126
خلاصة حكم المحدث: صحيح
٧- الراوي: عبدالله بن عباس
المحدث:الألباني
المصدر: صحيح ابن ماجه
الصفحة أو الرقم: 2/344
خلاصة حكم المحدث: صحيح
٨- سورة ال عمران ١٠٤-١٠٥
٩- سورة الأنعام ١٥٩
١٠- سورة الروم ٣١-٣٢
١١- سورة المؤمنون ٥٢-٥٦
١٢- سورة آل عمران ١٠٣

Friday, August 30, 2013

كيف تكون رجلاً ؟


﷽ 

الحمد لله و الصلاة على رسول الله

اما بعد،

فإن التاريخ قد خلّد رجالاً على مر العصور كانت لهم انجازات و أعمال استصعت على الكثير من الجماعات و هم انجزوها فرادا، لا بد ان هؤلاء الرجال هم من معادن مختلفة، و لديهم طريقة تفكير مميزة عن غيرهم.

يكشف لنا الاستاذ/ عبد الوكيل جابر بعض الأسرار التي جعلت من هؤلاء الرجال النوادر أساطير مخلدون في أذهان الناس.

اليكم هذه المقالة الرائعة و اتمنى الاستفادة منها لي و لكم

و الحمد لله و الصلاة على وسول الله ﷺ 






طارق القائد







كيف تكون رجلًا؟







للأستاذ عبد الوكيل جابر





 سبيل المجد اليوم هو العمل المجدي الذي يطغو على الأعمال الأخرى؛ فيبدو ممتازًا بفائدته للمجموع، وثمرته الشاملة للإنسانية...
لقد اقتضت طبيعة الاجتماع أن تكثر المشكلات العامة التي تضل فيها الأحلام، وتتعدد حاجات الأمم تعددًا أذاع التنافس بينها، وكان الظفر لأكثرها تفكيرًا، وأقدرها على تحصيل ما يعوزها من رغبات؛ فليس ينقص طالبَ المجدِ شيءٌ إلا أن يظهر في ميادين العمل العام بما يُعْجِز سواه، أو على الأقل يأتي بعمل الممتازين الذين تعرف لهم الأمم شرف القيام بالأعمال الفذَّة التي لا يستطيع القيام بها السواد والدهماء.
وطريق العمل معبَّد أمام أبناء الإنسانية جميعًا؛ ففي مُكْنَةِ الرجل المغمور المقرف أن يصير ذات يوم علمًا يسير اسمه مسير الشمس والقمر.
وكم أرانا التاريخ أمثلة هي في الواقع تَعِلَةً لمن لم يسعدهم الجد بِنِجَارٍ شامخ، أو عزٍّ قائم.
وما عاب هؤلاء، ولا نقص من قيمة أعمالهم أنها صدرت عن غير معروف، بل العكس كان قيام النكرات بالأعمال الجليلة مثارًا لزيادة إجلالهم في عيون الجماهير.
ولعل منشأَ ذلك قوةُ نفوس هؤلاء، وتمكنهم من التغلب على الصعوبات التي تعترض العاملين وهي كثيرة، وبخاصة من لم يسعده جاهٌ بارعٌ، أو حسب مستطيل.
وفي اعتقادي أن من له مُسْكَةٌ من العقل يستطيع أن يقوم بعمل نافع إذا سلك السبيل القويم، وتوفر على العمل في الدائرة التي يشعر من نفسه بالميل إليها.
ولسنا نزعم أن كل إنسان يقدر على إذاعة اسمه إذاعة عطرية، ولكنا نريد أن نقول: إن كل عاقل يمكنه من عمل شريف يرفع له ذكرًا ولو في دائرته المحدودة، وهذا على أي حال خير من الذكرى الذميمة، أو فقدان الأثر الطيب.
إن الإنسان خلق في هذه الحياة ليكون عاملًا، وقد أعده الله للعمل بما رُكِّب فيه من أدواته وبواعثه، وكلُّ عواطفِ الشهوةِ التي رُكِّبت فيه ليست إلا خادمًا للغرض من الحياة؛ فإذا اشتطَّ الإنسان في استخدام شهوته، وجعل إرضاءها هو كل الغرض من وجوده، فقد ارتكب أشنع خُطةٍ تُلْحقه بعالم الحشرات المؤذية.
إن سبل الذِّكر الذائع أصبحت متعددة لاشتباك المصالح، وكثرةِ المطالب، كما أصبح العمل ميسرًا؛ لانتشار العلم، وتَمكُّنِ الـمـُجِدِّ من الابتداع، وابتكار الجديد.
وإذا حصرنا العمل في دائرة مطالبنا الإسلامية أو الشرقية تبيَّن جليًّا فقرُنا إلى الجد، وتهيؤ الفرص لاكتساب المجد.
ومن دواعي الأسف أن يكون فينا عاملون، ولكن لا توجد روح التعاون العامة التي يستطاع بها إيجاد الثمرات، التي تنتجها أعمالهم على أحسن وجه.
وكلنا يعرف أن الحياة قصيرة الأجل؛ فليس من الحزم أن يضيعَ المرءُ فتراتِها القصيرةَ فيما لا يجدي، أو يعيش حياتَه الوشيكةَ الزوالِ مغمورًا كسلانًا لا يشعر بوجوده أحد، كأنما هو بعض الأشباح التي يراها النائم، فإذا أفاق من غفوته تبددت من ذاكرته، كما تتبدد الثلوج تشرق عليها الشمس.
وأرى مجد الحياة قريبًا من النفوس القوية المليئة بالجد، البعيدة عن مهازل الدنيا وسفاسفها.
وعلى قدر تَشَبُّع النفس بهذا الخلق يكون مبلغها من الحصول على الشهرة، وبياض السمعة.
وإن الفؤاد ليعنو خشوعًا كلما ذكر واحدًا من أولئك العاملين، فنظر في صفحة حياته مظاهر الحنين إلى المجد تلازمه منذ طفولته.
وأذكر أن عبدالله باشا فكري، كان- وهو طالب الأزهر الصغير- يكتب على سواري المسجد: (عبدالله باشا فكري) فيقرأ إخوانه ذلك هازئين ساخرين، ولكن عبدالله فكري الحديث يقابل سخريتهم هذه برزانة الواثق من نفسه، المتفائل بمستقبله؛ فكان من شأنه بعد ذلك ما يعرفه الناس.
سواء أصحَّ هذا أم لم يصحَّ، فإن الشيء الذي لا شك فيه أنَّ القيام بالعمل الجليل لا يكون إلَّا إذا خامرت النفس فكرة شريفة تلازمها في فجر الحياة.
ومن أجل ذلك جهد المربون في أن يفتحوا مغاليق الأذهان منذ الصغر؛ كي تشعر بمسئوليتها في الوجود، وواجبها الذي يطلب منها للمجموع.
ومن أساليبهم في الوصول إلى هذا الغرض دراسة تاريخ العظماء، وتحليل حياتهم تحليلًا تتجلَّى فيه الأسباب التي أوصلتهم إلى مركزهم الممتاز في هذه الدنيا.
ولعل ذلك من أجدى أنواع التعليم للنشء، وَأعْوَدِه عليهم بالخير، وعلى مقدار اتجاه الناشئ في هذا السبيل يكون مبلغه من النجاح.
ويحضرني في هذا المقام قصة ذلك الأعرابي الذي سأل ابنه فقال: كمن تحبُّ أن تكون؟ فأجاب الغلام بقوله: أحبُّ أن أكون مثلك! فامتعض الأب، وقال: يا بني، إني لم أبلغ ما بلغت إلا بعد أن تمنيت أن أكون مثل علي بن أبي طالب، فإذا كان شأني ما ترى، فكيف يكون حالك إذا تمنيت أن تكون مثلي فحسب؟
يستخلص مما ذكرناه ومما قرره الواقعُ الـمـُحَسُّ أن النجاح في الحياة، والظفر بالذكر المجيد، ونيل المنزلة السابقة بين الناس تتوقف على أمور أهمها:
أ- أن يتناول المرء من المهن أحبها إلى قلبه، وآثرها عند ميوله، فإذا فرض أنه اشتغل بالعلم، فليكن همه متجهًا إلى الفرع الذي يشعر من نفسه بقدرته على إتقانه، والنفاذ في نظرياته.
ب- أن يؤثر الثبات في جميع أدوار حياته، وألا تؤثر في اعتقاده بالنجاح العقبات التي تعترضه؛ فما أتي امرؤ إلا من الجزع يناله عن سعيه إلى غاية.
ج- أن يُوفِّر همَّه على البحث، واستطلاع الآراء التي من شأنها أن تزيده علمًا بمادته، وألَّا يعوقه الكبر وغيره من رذائل الخصال عن استقاء المعلومات من مظانها الصالحة.
د- ألا يكترث بالآراء الزارية ما دام واثقًا من نفسه، معتقدًا بوضوح السبيل الذي يلجه؛ فإنَّ الجديد الصالح يجد أحيانًا معارضين جاهلين أو حاقدين، ولا يثبطن من همته أنه لم يلقَ تشجيعًا أو تقديرًا لأعماله؛ فإنَّ لذلك يومًا لا بد أن يحين.
هـ- أن يتمسك دائمًا بالأخلاق الشخصية الفاضلة؛ فذلك أدعى إلى جمع القلوب حوله، وهذا يمهد الطريق لإذاعة آرائه، ويجعلها بمنجاة من المعارضة والنزاع.
وبعد فتلك آراء نذيعها لأبناء اليوم، وهم رجال الغد، عسى أن يكون فيها قبس ضئيل، إن لم يكن فيها مشكاة واضحة النور.

-------------------------

المصدر: مجلة الهداية الإسلامية، الجزء التاسع، المجلد الأول ص419، صفر 1348هـ . نقلًا عن كتاب مقالات كبار كتاب العربية في العصر الحديث. بتصرف.

Friday, August 23, 2013

أحداث الساعة تُقارب الساعة


﷽ 

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا. قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا. ﴾ (١)

و الصلاة و السلام على صاحب الشرع الكريم، إمام المسلمين و هو بهم رحيم، أُرْسِلَ لِيُنْذِر الكافرين نار الحميم، و يبشر المؤمنين و الصالحين بجنات النعيم.

أما بعد،،

فقد جاء الإسلام يدعو للتراحم و التفاهم بين جميع الطبقات البشرية، الغني يطعم الفقير، و  الحر يرحم الأجير، و الشعب في ظل و أمان الأمير. فالعلاقة بين الحاكم و المحكوم لها أسس ربّانية رحيمة فعّالة تنجز العدل لبناء الحضارة القوية المتماسكة، ذلك الأصل في الحكم و سياسة الرعية، أما الإستبداد و قمع الحريات و سد أفواه الناطقين بالحق، فهذا نهج المجرمين الذين يفسدون في الأرض والتي لم يأمر خالقها إلا بعكس ما يفعلون، و يشرعون بما تأمرهم أهواءهم و يتركون ما نزّل الله جل جلاله من شرع نزيه.

﴿ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ (٢)

فماذا كان بعد ان استبدلوا سنة الله في الأرض بأهوائهم ؟ 

يروى لنا التاريخ عن أمم و حضارات تهدمت بعد ما كانت هي السائدة و الرائدة، و قص لنا الله عز و جل في كتابه عن من كان قبلهم من الأمم التي هلكت بعصيانها و تكبرها على الرسل الكرام الذين دعوهم للرشد وهم عنه معرضين، 

﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ (٣)

و جرت بنا الأيام حتى رأينا بأم أعيننا ماذا يحل بالنظم العربية الجائرة المتجاوزة لشرع الرحمن، هل رأيتم أي منقلب انقلبوه ؟ يا أُولي الألباب !

ألا يدعوكم المشهد العربي اليوم الى إصلاح ما تم إفساده بأنظمة لا تسير على نهج الله الخالق العالم البارئ؟ أما بان لكم الحق؟ أم لكم أعين لا تبصرون بها أو آذان لا تسمعون بها؟

﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ (٤)

﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴾ (٥)

فإن كنت مستكره على نظام ليس فيه لله من شيء، و كنت مستضعفا و لا قدرة لك في اصلاح وضع مهين، فلا تدع لسانك ينطق بغير الحق تبتغي عَرَضاً من الدنيا قليل، و تذكر قوله سبحانه:

﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ (٦)

و ليس كل من تكلم بإسم الله و الدين ظهر صدقه و وجبت علينا طاعته، فإختلاف الأحزاب و كثرتهم دليل على عدم أصحية الوضع العام بأسره، و قد قال ﷺ :  "إن بعدي من أمتي أو سيكونُ من أمتي قومٌ يقرؤون القرآنَ لا يجاوزُ تراقيَهم يَخرجونَ من الدينِ كما يخرجُ السهمُ من الرميةِ ثم لا يعودون فيه، هم شرُّ الخلقِ والخِلقةِ" (٧).

﴿ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ (٨)

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ (٩)

عباد الله، إن حاضرنا و مصابنا في ديننا و فساد أئمتنا فتنة زماننا، و إن الأحداث التي نراها من قتال المسلمين للمسلمين حدث أشار إليه الرسول الكريم ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى فقال: "إنما أخافُ على أمتي الأئمةَ المُضِلِّينَ، وإذا وُضِعَ السيفُ في أمتي ؛ لم يُرْفَعْ عنهم إلى يومِ القيامةِ ." (١٠) 

فالعقل العقل ! أبمثل هذه الأوضاع يتهاون المتهاونون و تُقَض الأبصار عن جلية الحق الساطع سطوع الشمس ؟! و العمل العمل، فما الساعة ببعيدة في ظل السيف المغمور في الأمة، و الصدق الصدق، فالله عز و جل أعلم بما تخفيه القلوب و ما تسعى اليه النفوس و نواياها.

و لك أيها القارئ الفاضل مقالة من أروع المقالات القديمة التي تتكلم عن القمع و الحريات و أثرها على المجتمعات، مقالة للشيخ محمد الغزالي بعنوان "لا دين حيث لا حرية"

اتمنى لكم و لي الإستفادة 

و الصلاة على سيدنا محمد ﷺ
و الحمد لله رب العالمين.





طارق القائد





المراجع:

١- سورة الكهف ٢-٣
٢- سورة الروم ٢٩
٣- سورة الشعراء ٢٢٧
٤- سورة القصص ٤٠
٥- سورة الكهف ٥٩
٦- سورة هود ١١٣
٧- الراوي: أبو ذر الغفاري
المحدث:الألباني
المصدر: تخريج كتاب السنة
الصفحة أو الرقم: 921
خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح على شرط مسلم
٨- سورة الزخرف ٦٥
٩- سورة الحج ٤٨
١٠- الراوي: ثوبان مولى رسول الله ﷺ  المحدث:الألباني
المصدر: تخريج مشكاة المصابيح
الصفحة أو الرقم: 5321
خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح
921
خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح على شرط مسلم






لا دين حيث لا حرية




إنَّ إذلال الشعوب جريمة هائلة، وهو في تلك المرحلة النكدة من تاريخ المسلمين عمل يفيد العدوَّ ويضرُّ الصديق.

بل هو عمل يتمُّ لحساب إسرائيل نفسها، فإنَّ الأجيال التي تنشأ في ظلِّ الاستبداد الأعمى تشبُّ عديمة الكرامة، قليلة الغناء، ضعيفة الأخذ والردِّ.

ومع اختفاء الإيمان المكين والخلق الوثيق والشرف الرفيع.

ومع شيوع النفاق والتملُّق والدناءة.

ومع هوان أصحاب الكفايات وتبجُّح الفارغين المتصدرين.

... مع هذا كله لا تتكوَّن جبهة صلبة، وصفوف أبيَّه باسلة!

وذلك أمل إسرائيل حين تقاتل العرب؛ لأنَّها ستمتدُّ في فراغ، وتشتبك مع قلوب منخورة وأفئدة هواء!

والواقع أنَّ قيام إسرائيل ونماءها لا يعود إلى بطولة مزعومة لليهود قدر ما يعود إلى عمى بعض الحكام العرب المرضى بجنون السلطة، وإهانة الشعوب.

ولو أنصف اليهود لأقاموا لهؤلاء الحكام تماثيل، ترمز إلى ما قدَّموا لإسرائيل من عون ضخم، ونصر رخيص!!

... إنَّ جماهير العرب عطشى إلى الحرية والكرامة، ولقد بُذلت جهود هائلة لمنعها من الحقِّ والجدِّ، وتعويدها عبادة اللذَّة، إلى جانب عبادة الفرد، ولكن جوهر الأمة تأبى على هذه الجهود السفيهة، وإن كانت طوائف كثيرة قد جرفتها هذه المحن النفسية، فهي تحيا في فراغ ومجون مدمِّرين، لا تبقى معهما رسالة، ولا ينخذل عدو.

ومِن ثمَّ كان العبء على المصلحين ثقيلًا، ولكن ما بدٌّ منه لحماية حاضرنا ومستقبلنا.

ولقد تبعت الصراع بين الحكام المستبدين والرجال الأحرار منذ نصف قرن، ودخلت في تلك المعمعة؛ لأذوق بعض مرِّها وضرِّها.

وكنت أُردِّد بإعجاب صيحات الرجال الكبار، وهم يهدمون الوثنية السياسية، ويلطمون قادتها، ولو كانوا في أعلى المواضع.

ولا أزال أُكرِّر ما ذكرتُ في بعض كتبي من أنَّ الحريات المقررة هي الجوُّ الوحيد لميلاد الدين ونمائه وازدهاره!

وإنَّ أنبياء الله لم يضاروا بها أو يهانوا إلا في غيبة هذه الحريات، وإذا كان الكفر قديمًا لم ينشأ ويستقرَّ إلا في مهاد الذلِّ والاستبداد، فهو إلى يوم الناس هذا لا يبقى إلَّا حيث تموت الكلمة الحرة، وتلطم الوجوه الشريفة، وتتحكَّم عصابات من الأغبياء أو من أصحاب المآرب والأهواء..

... نعم ما يستقرُّ الإلحاد إلا حيث تتحوَّل البلاد إلى سجون كبيرة، والحكام إلى سجانين دهاة.

من أجل ذلك ما هادنَّا –ولن نهادن إلى آخر الدهر- أوضاعًا تصطبغ بهذا العوج، ويستشري فيها ذلك الفساد.


هو الحقُّ ما دام قلبي معي
وما دام في اليد هذا القلم!
      

إنَّ البيئات التي تستمتع بمقادير كبيرة من الحرية، هي التي تنضج فيها الملكات، وتنمو المواهب العظيمة، وهي السناد الإنساني الممتدُّ لكلِّ رسالة جليلة وحضارة نافعة.

ولأمر ما اختار الله محمدًا من العرب!

إنَّ ذلك يرجع إلى طبيعته الذاتية، وطبيعة الجنس الذي ينميه على السواء!!

فإنَّ العرب أيام البعثة كانوا أسعد الأمم بحظوظ الحرية المتاحة لهم، بينما كان الروم والفرس جماهير من العبيد الذين تعودوا الانحناء للحكام،والسجود للملوك، وضياع الشخصية في ظلِّ سلطات عمياء، وأوامر ليس عليها اعتراض.

أمَّا العرب فكانوا على عكس ذلك، حتى لكأنَّ كلَّ فرد منهم ملك، وإن لم يكن على رأسه تاج!

ونشأ عن ذلك الاعتداد الخطير بالنفس، أنَّ كفَّار القبيلة كانوا يموتون دفاعًا عن مؤمنيها، وكانت حرية الكلمة متداولة في المجتمع تداول الخبز والماء.

ووسط هذا الجوِّ شقَّت رسالة الإسلام طريقها صعدًا، لم تثنِها المعوِّقات الطبيعية التي لابدَّ منها.

ومن الفطر القوية لأولئك العرب الأحرار كانت الانطلاقة التي عصفت بالحكومات المستبدة، وبدَّلت الأرض غير الأرض، والناس غير الناس.

ذلك أنَّه يستحيل أن يتكوَّن في ظل الاستبداد جيل محترم، أو معدن صلب، أو خلق مكافح.

وتأمَّل كلمة عنترة لأبيه شدَّاد لما طلب منه الدفاع عن القبيلة، قال: إنَّ العبد لا يحسن الكرَّ والفرَّ، ولكنَّه يحسن الحلب والصرَّ! فأجاب الوالد: كرَّ وأنت حرٌّ!

وقاتل (عنترة)، وتحت لواء الحرية أدَّى واجبه، ولو بقي عبدًا ما اهتمَّ بهلاك أُمَّة من الناس فقَد بينهم كرامته ومكانته.

ومن مقابح الاستبداد أسلوبه الشائن في إهانة الكفايات، وترجيح الصغار، وتكبيرهم تبعًا لمبدئه العتيد:

أهل الثقة أولى من أهل الكفاية.

ومَن هم أهل الثقة؟ أصحاب القدرة على الملق والكذب... اللاهثون تحت أقدام السادة تلبية لإشارة، أو التقاطًا لغنيمة.

هذا الصنف الخسيس من الناس هو الذي يُؤثَر بالمناصب، ويظفر بالترقيات، وتُضفَى عليه النعوت، ويُمكَّن له في الأرض.

أما أهل الرأي والخبرة والعزم والشرف، فإنَّ فضائلهم تُحسب عليهم لا لهم، وتُنسج لهم الأكفان، بدل أن تُرفع لهم الرايات..

والويل لأُمَّة يقودها التافهون، ويُخزى فيها القادرون...

ما أكثر العلماء في بلادنا لو أريد توسيد الأمر أهله، ولكن العلماء ليسوا موضع ثقة لصغار المتصدرين؛ لأنَّ العالم يستنكر المتناقضات، ويكره الدنية، ويقول بغضب:


أأشقَى به غرسًا وأجنيه ذلَّةً
إذن فاتِّباعُ الجهلِ قد كان أحزمَا
      

أما وقد أزال الله الغمَّة، وعلت كلمة الأُمَّة، فلنعُدْ بالأمور إلى أوضاعها السليمة، ولنُوفِّر الحريات التي طال إليها الشوق، واشتدَّ الحنين.

لقد كان الاستبداد قديمًا أقلَّ ضررًا من الاستبداد الذي نظمته الدولة الحديثة في هذه الأعصار، فإنَّ الدولة في العصر الحديث تدخَّلت في أدقِّ شؤون الفرد، وبسطت نفوذها على كلِّ شيء.

ومن هنا كان الدمار الأدبي والمعنوي الذي يصطحب الاستبداد بعيد الآماد، خبيث العواقب.

ومن أحسن ما قيل في تشييع ظالم مستبد:


لتبكِ على (الفضلِ بنِ مروانَ) نفسُه 
فليس له باكٍ مِن الناسِ يُعرفُ

لقد صحِب الدُّنيا منُوعًا لخيرِها
وفارَقها وهو الظَّلومُ المعنفُ

إلى النارِ فليذهبْ ومَن كان مثله
على أيِّ شيءٍ فاتنا منه نأسفُ؟
      


  اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان.






الشيخ محمد الغزالي






 ---------------------------------------


المصدر: كتاب (قذائف الحق) للشيخ محمد الغزالي - دار القلم، دمشق، الطبعة الأولي 1411هـ . ص 233 (بتصرف). والمقال نشر في أوائل السبعينيات.

 

Friday, August 16, 2013

صِلاحُ الإمامِ بَرُّ الأمانِ


﷽ 

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا. قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا. ﴾ الكهف ٢-٣.

و الحمد لله الذي تاب على أبينا آدم و استخلفه في الأرض من دون الخلق، ليكون استخلافا على دين الحق، اذ قال جل جلاله﴿ اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ البقرة ٣٨.

فما من أمة تنتهج منهجاً دون الهدى المنزّل، إلا وكانت ظلالة و فساد و اعوجاج، و إن كانوا يؤسلمون ما لا ليس له بالشرع صلة بفتاوي واهنة لا حجة فيها، فالشرع ساطع سطوع الشمس لمن كان يرجوا الله و اليوم الآخر، و محجوب عن من يرجوا دنيا قال بها الرحمن ما هي الا متاع الغرور.

قال الملك القيّوم:

﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ هود ١١٧.

ان ضياع الشعوب و الدول و الأمم له أسباب يجهلها الحاكم و المحكوم، و في كشف هذه الأسباب قد تنجلي عن أعين المتعصبين غمامة التعصّب، و قد تكون هنالك فرصة لبناء الخلافة التي نالها السلف بالسيوف و فرّط بها الخلف باللّهو و الّعب و المرح. الخلافة التي لأجلها وُجِدَ الناس، فما الوجود الآدمي إلا لإستخلاف الأرض على نهج و هدى الرحمن، لا على هوى الإنسان و طريقة الشيطان.

تكلّم في هذا الموضوع الكثير من العلماء و المفكرين الإسلاميّين، ولكن هنالك مقالة لمفكر إسلامي تأثر به أعلام الإسلام المعاصرون، و أذكر أبرز شخصيتان من الأعلام التي تأثرت به هما حسن البنة و هو غني عن التعريف و فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الالباني المحدّث المجدد رحمه الله. 

اقدم بين يديكم مقالة للمفكر الإسلامي الإصلاحي محمد رشيد رضا، مقالة رائعة البيان في موضوع صلاح الأمم و الشعوب و في أسباب هلاكها.

اتمنى الإستفادة منها لي و لكم

و اصلي على خاتم النبياء و المرسلين محمد ﷺ 
و الحمد لله رب العالمين





طارق القائد






عنوان المقال : ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ 


محمد رشيد رضا
نشر عام 1316هـ
 
... كيف يهلك الله الشعوب ويبيد الأمم، وكيف يديل من الدول دولًا وينزع السيادة من قوم، ويستخلف من بعدهم قومًا آخرين؟ يقول المسلمون : إنَّ الدين هو الذي كان سبب سيادتهم وسعادتهم، وإن الإعراض عنه هو الذي أوقعهم في الشقاء وأنزل عليهم البلاء. ويحتجون بآيات من الكتاب العزيز، كقوله تعالى: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]. وقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] حقًّا قالوا، ولكنَّ أكثرهم يلهج بالقول عن غير فهم ولا بصيرة، متوهمين أنَّ في الدين سرًّا روحانيًّا غير معقول، يمدُّ الآخذين به بالنصر والقوة، ويعطيهم الغلب بالخوارق والكرامات !
ويقول الناظرون في سير الإنسان في زمانهم الحاضر والواقفون على تاريخه في الزمن الغابر: إنَّ ضعف الأمم وانحلالها، وهلاك الشعوب وانقراضها، وعزة الدول وامتناعها، وسيادتها وارتفاعها، كلُّ ذلك جارٍ على نواميس طبيعية، وسنن إلهية، لا تغيَّر ولا تحوَّر ولا تبدَّل ولا تحوَّل، وقد هدى الله بفضله النوع الإنساني النجدين، وبيَّن له الطريقين، فمن سار على طريق الترقي والسيادة، مراعيًا سنن الله تعالى فيهما وصل إليهما، سواء كان مؤمنًا أم كافرًا، فالدين لا أثر له في عزة الأمم ولا في ضعفها واستكانتها، والشاهد على ذلك أنَّ جميع الدول الإسلامية اليوم ضعيفة، ودولة اليابان الوثنية في أعلى درجات القوة والعزة، بل إنَّ الأمم المتمدنة تعتقد أنَّ الدين حجاب كثيف يحول دون الارتقاء - لولا أن مزقَّته لما لاح لها نور العلم بطرق السعادة- وقيد ثقيل، لولا أن فكُّوه لما أمكنهم الإيجاف والإبضاع والتزلل والارتفاع، ولظلوا يرسفون رسفان (مشي المقيد) من لا تزال القيود في أرجلهم، والأغلال في أعناقهم، ومن رأي هؤلاء : أنَّ العقبة الكبري في طريق تقدم الدول الإسلامية هو الدين نفسه، وأنهم إذا مرقوا منه رُجي لهم اتباع خطوات أوروبا وتقدموا كما تقدمت! من كان مبغضًا للمسلمين من هؤلاء يسجل عليهم الضعف والانحطاط، بل يعدهم بالحِمام والموت الزؤام . ومن يحب المدافعة عنهم لأمر ما يقول: إن فيهم قابلية للنهوض والترقي والأخذ بأساليب المدنية الجديدة التي ساد فيها غيرهم، .... هذا ملخص ما يقوله فينا المتمدنون، ويكتبه في سياستنا الكاتبون، وقد اشتبه على الدهماء منا حقه بباطله، ورأى فيه المنحرفون شبهة على بطلان الدين، وهبوطه بالآخذين به إلى أسفل سافلين؛ لأنَّ من المشهود الذي لا يمكن إنكاره أنَّ المسلمين أمسوا أفقر الأمم وأكسلها وأجهلها، ودولهم باتت أضعف الدول وأظلمها. ولا فرق بينهم وبين جيرانهم يضاف إليه هذا التقهقر والانحطاط إلا في الدين، فلا جرم أنَّ الناظر في طبائع الملل يضيف ذلك إليه ويقرنه به.
 وإننا نكشف الغطاء عن تحقيق الحق في المسألة؛ لينجلي الصبح لذي عينين فنقول: قول المسلمين : إنَّ الدين هو الذي كان سبب سيادتهم وسعادتهم، وإنَّ خسران تلك السيادة والسعادة إنما جاء من الانحراف عن هديه- صحيح، وقول القائلين : إن الله تعالى قد جعل لارتقاء الأمم سننًا حكيمة من سار عليها فاز، ومن تنكبها خسر مهما كان دينه- صحيح أيضًا... وقد غالى كلُّ فريق في رأيه، فزعم المسلمون أنَّ الانتساب للدين فيه أسرار غير معقولة، تُعطي أصحابه قوى غيبية تكون بها غلبتهم على من سواهم، وزعم الآخرون أنَّ الدين لا أثر له في الإسعاد، بل هو موقع لأربابه في الشقاء، فأفرط الغالون، وفرَّط المارقون، اغترارًا بأُولى المسلمين، وآخرة الأوروبيين، ولم تخرج سيادة المسلمين في أول نشأتهم عن نواميس الكون، إلَّا ما أمدَّ الله به نبيَّه صلى الله تعالى عليه وسلم عند ضعف المسلمين ووهنهم بالمعونة الربانية، زيادة عن المحافظة على السنن العامة، وتلك سنته تعالى مع أنبيائه. ألم ترَ كيف كان الظفر كاملًا والتأييد شاملًا في غزوة بدر ووقعه الأحزاب ونحوهما، مع قلة المسلمين وضعفهم، ويوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم، فلم تُغنِ عنهم شيئًا وولوا مدبرين؟ وكيف انكسروا في واقعة أُحُد؛ لإخلالهم بالسنَّة الإلهية، وهي طاعة الرئيس بالحقِّ.
وأمَّا أوروبا فإنَّ الدين لم يكن صادًّا لها عن التقدم، إلا بما زاد عليه الرؤساء من المنع عن النظر في نواميس الكون، وسائر الفنون العقلية، وسلب الاستقلال في الإرادة والرأي، والحرية في القول والعمل، بحجة الدين. فلما اهتدى القوم إلى هذا بما اقتبسوه من الإسلام في حروبهم الصليبية، أقاموا في ضوئه أساس مدنيتهم، ولما أحسوا بلذة المدنية، طفقوا ينسلون من الدين الذي كان  مانعًا لهم منها، ولكن نبذ الدين رماهم بشرور ستضطرهم إلى الرجوع إلى الدين يومًا ما ؛ لأن كمال البشر لا يتمُّ إلا به...
والاعتدال في مسألتنا الذي نريد أن نبينه هو: أنَّ الدين الإسلامي- دين الفطرة- لما كان مرشدًا إلى سعادة الدنيا والآخرة معًا بيَّن للناس أنَّ لله في خلقه سننًا حكيمة، لا تبدَّل ولا تحوَّل، وهداهم إلى السير عليها، وشرع لهم من الأحكام ما إن تمسكوا به لن يضلوا عن طرق السعادة أبدًا، ومن السنن التي بينها القرآن بيانًا كافيًا، وكرَّر القول فيها- سنته تعالى في إهلاك الأمم، وسقوط الدول، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا}. [يونس : 13]، وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}. [الإسراء: 16]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}. [القصص : 59] وبيَّن تعالى أنَّ الظلم إذا وقع في أمة يعمُّها العذاب، وإن لم يواقع الظلم جميع أفرادها، فقال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] والآيات الناطقة بأنَّ الظلم مُؤْذن بهلاك الأمم وفساد العمران كثيرة جدًّا، وتقابلها الآيات المبينة أنَّ التقوى والصلاح، والإصلاح والعدل ونحوها من صفات الكمال واقية من حلول البلاء، وسبب لزيادة النعماء، وهي كثيرة أيضًا منها: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء : 105] الصالح في عرف المسلمين من يقوم بحقوق الله وحقوق العباد... ومنها: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف : 128]. وقد صدرنا هذه المقالة بآية كريمة وموعظة حكيمة وهي: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود : 117 ) قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ ...} إلخ. معناه : ما كان من شأنه ذلك، ولم تجرِ سنته به، فكلُّ آية مُصدَّرة بذلك فهي قاعدة عامة، تنبئ عن سنة ثابتة، وفسَّر الظلم في الآية بالشرك، وهي نصٌّ على أنَّ إصلاح الناس فيما بينهم مانع من إهلاكهم، وتسليط الأعداء عليهم، وإن كانوا مشركين بالله تعالى، وفيها دليل على أنَّ الإيمان بالله من غير إصلاح الأعمال، وعدل العمال، لا يمنع الإهلاك، يؤيده قوله تعالى: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. [الأنعام : 48] وقوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}. [النور: 55] وتأمل قوله: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} ففيه إشارة إلى أنَّ سنته تعالى واحدة، وأما آية {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم : 47] فيحمل الإطلاق فيها على التقييد في الآيات الكثيرة أو يراد بالتعريف : التعظيم، والمراد : المؤمنون الكاملون الذين يقومون بحقوق الإيمان، على أنَّ الإيمان يطلق كثيرًا على التصديق والعمل الصالح معًا، والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة، ومنها ما ورد : أن ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول : لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) .
أرشد الدين الإسلامي إلى السنن الإلهية، وأمر بالنظر في الكون والتفكر والاعتبار، وفصَّل ما تمسُّ إليه الحاجة، وهدانا إلى أنَّ لكلِّ عمل أثرًا لا يتعدَّاه، وأنَّ الأسباب مربوطة بمسبباتها، وكلَّ سبب يفضي إلى غاية، والأمور الدنيوية لا يمنعها الله عن طلابها، إذا أتوا البيوت من أبوابها، والتمسوا الرغائب من طرقها وأسبابها، سواء كانوا مؤمنين أم كافرين، وإنما الإيمان شرط للمثوبة في العقبى، وكمال السعادة في الدنيا {كُلًا نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]. بهذا كان الدين الإسلامي سببًا في سعادة ذويه وسيادتهم، عندما كانوا مهتدين بهديه، ومتمسكين بحبله، لا بأسرار خفية، وأمور غير معقولة. لكن جهل المسلمين بتعاليم دينهم أفضى بهم إلى التفرق والانقسام، والميل مع الهوى، وجهلهم بحالة العصر زادهم عمهًا وحيرة في الدين والدنيا. ثم لما اتصل بعض أمرائهم وحكامهم بالأوروبيين رأوا أنفسهم مضطرين إلى مجاراتهم وموافقتهم، فقلدوهم عن غير بصيرة، فكانوا بذلك عونًا لهم على أنفسهم، فازدادوا من الأمة بغضًا على بغض الظلم والفسق، وعجز العلماء والفقهاء عن هدايتهم إلى تعاليم الدين الموافقة لروح العصر، لعدم وقوفهم على حالة العصر، على أنَّ الباحثين عن هذه التعاليم نفر قليل في كل قطر، ولا يكادون يتسامون إلى مراتب الأمراء والسلاطين، والمتصدرون جهلاء وعن الإصلاح بُعداء، الجماهير منهم مشغولون بالمباحث اللفظية وأساليب الكتب وخلاف الفقهاء، والمدعون الإرشاد لا همَّ لهم إلا المفاخرة بالأنساب، ومناهضة بعضهم بعضًا حسدًا وغواية، وخداع العامة بأنهم في قصورهم، وأجدادهم في قبورهم متصرفون في الأكوان! يُشقُون ويُسعدون، ويُفقرون ويُغنون، ويحلون ويعقدون، ويحيون ويميتون، ويوم القيامة يشفعون فيشفعون {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين : 14-15] لأنهم مضلون يقولون على الله الكذب وهم يعلمون .
فهؤلاء رؤساؤنا من الحكام والعلماء والمرشدين، هذه أحوالهم يشكو بعضهم من بعض، ولا يهتم أحد منهم إلا بتحصيل رغائبه، ونكاية مُناصبه، وقد ضاعت الأمة فيما بينهم: ضاع دينها بإهمال التعليم والإرشاد، وضاعت دنياها بترك العدل في البلاد {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر :13- 14]. وأيُّ عذاب أشدُّ من سوء الحال، وضياع الاستقلال، وانتزاع ممالكهم من أيديهم ولا حرب ولا قتال . فإذا ادعوا أنهم على الإسلام فأين آثاره التى تدلُّ عليه؟ وإذا اعترفوا بالانحراف عنه فليرجعوا إليه، وإلا فلينتظروا من الأمر ما هو أدهى وأمر، وأنكى وأضرُّ، ولنا الرجاء بأنَّ المسلمين قد تنبَّهوا من رقادهم، وطفقوا يرجعون إلى رشادهم، وذلك بتعميم التربية والتعليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .




المصدر: مجلة المنار: (المجلد الأول) فاتحة العدد الحادي والثلاثين الصادر في 2 جمادى الآخرة سنة 1316هـ (1/585) بتصرف.

Friday, August 9, 2013

إبتلاءٌ فصبرٌ فعطاءٌ فشكر



الحمد لله فاطر السماوات و الأرض، رب كل شيء و مليكه، يخلق و يرزق، يبسط الرزق لمن يشاء، و يمسكه عن من يشاء، خلق آدم فأحسن و أبدع تصويره، ثم نفخ فيه من روحه فإذا به خلق شريف كريم تسجد له الملائكة بأمره، ثم يستخلفه في الأرض و ذريته، جعل الأرض لنا ذلولا، و كذلك ذلل الأنعام فمنها ما نأكل و منها ما نركب، سبحانه سخّر لنا كل ما في الكوكب، و أرسل علينا خاصة نبيّا على لسان العرب، محمد ﷺ في أشرف النسب، ليستخلصنا من مآرب الشرك و البدع و الكرب، الى شرع نزيه يوافق فطرة القلب، أفلا يُشْكر بهذا و يُحْمد و يُعْبد الرّب؟

اما بعد،

فلعل من الناس من يغلب عليه اشيطان احيانا في تفكيره، و ينتهز الشيطان دائما امتحان الرحمن لعبده ليختبر صبره و تشميره، فيقع العبد في حيرة ما بين فطرة القلب و وسوسة الشيطان الرجيم مقلّب المفاهيم، فقد خُلِقَ الإنسان ضعيفا مستسلماً لرغبات الهوى، إلا من كان يرطب لسانه بالذكر و يطهر قلبه من الوساوس بالإيمان.

إن أكثر ما يفتن به ابن آدم هو المال، قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْث ﴾ (١). فهو يفتن بما يحب، إمّا بكثرة المال و البنين فيُختبر بما ينفق منها لله مما أعطاه، و إمّا بفقر و حاجة فيختبره الله عز و جل ليصبر على ما إبتلاه.

إن الأرزاق مقسومة لابن آدم محسومة من يوم ولادته حتى مماته، قال ﷺ : "إنَّ اللهَ تعالى وكَّلَ بالرحمِ ملَكًا يقولُ : أيْ ربِّ نطفةٌ ، أيْ ربِّ علقةٌ ؛ أيْ ربِّ مضغةٌ ، فإذا أراد اللهُ أنْ يقضيَ خَلْقَها قال : أيْ ربِّ شقيٌّ أم سعيدٌ ؟ ذكرٌ أو أنثى ؟ فما الرزقُ ؟ فما الأجلُ ؟ فيُكتبُ كذلك في بطنِ أمِّه" (٢). فمن كان يتذمّر دائما على قدره و حظه فهو فالواقع يرفض ما كتب الله له دون رضى ولا صبر، و ما أُمر العباد إلا لطاعة الله و عبادته و الصبر على إبتلاءه، فلو أنه جمّل في طلبه من الله عز و جل ليصرف عنه ما به من أذى لكان خير له.

قال ﷺ :"إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي ، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها ، وتستوعِبَ رزقَها ، فاتَّقوا اللهَ ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ".(٣)

و الطلب من الله سبحانه و تعالى ليس فقط في الدعاء، بل بكل الأعمال الصالحة التي يقدمها العبد، فالإستجابة للعبد الصالح ليست كغيره، و من هذه الأعمال صلة الرحم، فصلة الرحم عمل عظيم يدر لصاحبه منافع كثيره، يقول ﷺ :"مَنْ أحبَّ أنْ يُبْسَطَ لهُ في رِزْقِهِ ، و أنْ يُنْسَأَ لهُ في أَثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رحمَهُ ."(٤).

و لعل الرجل الصالح المتيقن يعي ان الرزق الحقيقي ليس فقط مبا حبب للناس ما في الدنيا، انما المرزوق من رزق عملا في دنياه أدخله به الله عز و جل الجنة، فمن كان يعتقد انه فقير لا رزق له، كان ذلك له رزق في الآخرة ان صبر عليه، و كان له فقر ان جحد و رفض ما يمتحن به.

فلا يعجلن احد على رزقه، قال المصطفى ﷺ :"لو أنَّ ابنَ آدمَ هرَبَ من رزقِهِ كما يهرَبُ من الموتِ ، لأدْرَكَهُ رزْقُهُ كما يُدْرِكُهُ الموتُ"(٥).

و لِيَعْلم أن خير الأرزاق في الدنيا ما كان يسد حاجة المرء و يغنيه عن الحاجة لأحد من الناس، فقد قال ﷺ :"خيرُ الرِّزقِ الكَفافُ"(٦)، و قال ايضا ﷺ :"اللهمَّ اجعلْ رِزْقَ آلِ محمدٍ في الدنيا قُوتًا"(٧). و عليه الاستمار في الاعمال الثلاثة التي اذا عملها ضمن إن عاش رزق و كُفي، و ان مات يدخل الجنه، قال ﷺ :"ثلاثةٌ كلُّهم ضامنٌ على الله إن عاش رُزِقَ و كُفِيَ ، و إن مات أدخله اللهُ الجنَّةَ : من دخل بيتَه فسلّم ، فهو ضامنٌ على اللهِ ، و من خرج إلى المسجدِ فهو ضامنٌ على اللهِ ، و من خرج في سبيلِ اللهِ فهو ضامنٌ على اللهِ" (٨).


﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ (٩).


و الصلاة و السلام على النبي ﷺ
و الحمد لله رب العالمين





طارق القائد









المراجع:

١- سورة آل عمران ١٤

٢- الراوي: نس بن مالك 
المحدث:الألباني
المصدر: صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 1837
خلاصة حكم المحدث: صحيح

٣- الراوي: أبو أمامة الباهلي
المحدث:الألباني
المصدر: صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 2085
خلاصة حكم المحدث: صحيح

٤- الراوي: أنس بن مالك
المحدث:الألباني
المصدر: صحيح الأدب المفرد
الصفحة أو الرقم: 41
خلاصة حكم المحدث: صحيح

٥- الراوي: جابر بن عبدالله
المحدث:الألباني
المصدر: صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 5240
خلاصة حكم المحدث: حسن

٦- الراوي: زياد بن جبير
المحدث:الألباني
المصدر: صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 3275
خلاصة حكم المحدث: صحيح

٧- الراوي: أبو هريرة
المحدث:الألباني
المصدر: صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 1257
خلاصة حكم المحدث: صحيح

٨- الراوي:  أبو أمامة الباهلي المحدث:الألباني
المصدر: صحيح الترغيب
الصفحة أو الرقم: 321
خلاصة حكم المحدث: صحيح

٩- سورة البقرة ١٧٢

Friday, August 2, 2013

اصْبِرُوا وَصَابِرُوا



الحمد لله الخلّاق الرّزاق، خلق الإنسان ليبتليه بعمله، فما جعل من أحد إلا و له ما يفتن به، إمّا بفقرٍ يختبر به صبره، و أمّا بمالٍ يختبر به شكره و إنفاقه منه في سبيله، و الصلاة على حبيبه و نبيه محمد بن عبدالله و على آله الطاهرين الطيّبين.

أما بعد،

فقد خُلِق ابن آدم ضعيفا مبتليا بنفسه التي تأمره بما تهوى، والله يأمره بعكس ما تهوى، فصار في دنيا تكاد تنتهي ليحاسب في ما قدم فيها من عمل و مجاهدة.

قال تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ". (١)

و قال سبحانه: "مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ". (٢)

فما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، متاع يُختبر به العبد، فإن صبر و شكر فاز، و إن قنط و جحد خسر خسرانا مبينا.

و إن الزمان ليسري بنا لأيّام يكاد للصبور فيها أن ينفد صبره، قال المصطفى ﷺ : "فإنَّ من ورَائِكُمْ أيَّامَ الصبرِ ، الصَّبْرُ فيهِنَّ مثلُ القَبْضِ على الجَمْرِ لِلْعَامِلِ فيهِنَّ مثلُ أَجْرِ خمسينَ رجلًا يعملونَ مِثْلَ عملِهِ". (٣)

و لكن لا سبيل للنجاة دون الصبر، فقد قال ﷺ : "النَّصْرُ مع الصَّبْرِ ، و الفَرَجُ مع الكَرْبِ ، و إِنَّ مع العُسْرِ يُسْرًا ، و إِنَّ مع العُسْرِ يُسْرًا". (٤)

و قوة الصبر تتفاوت بين الرجال، فهي مرتبطة بدرجة إيمان العبد بربه، و قال ﷺ : "إنَّ الإيمانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أحدِكُمْ كَما يَخلَقُ الثّوبُ ، فاسْألُوا اللهَ تعالَى : أنْ يُجَدِّدَ الإيمانَ في قُلوبِكمْ". (٥)

فلا صبر دون إيمان، و لا إيمان دون اجتناب المعاصي، قال في هذا ﷺ : "إذا زنا الرجلُ خرج منه الإيمانُ ، فكان عليه كالظُّلَّةِ ، فإذا أقلعَ رجع إليه الإيمانُ". (٦)

ولا يحسب المرء اذا اصابه ما يكره و نال منه بعصبيته و انفلاته ثم رجع بعد هذا لصوابه و عقله انه قد صبر، فقد قال رسول الله ﷺ : "إنَّما الصَّبرُ عندَ الصَّدمةِ الأولَى". (٧)

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ". (٨).

و الصلاة على محمد ﷺ
و الحمد لله رب العالمين





طارق القائد










المراجع:

١- سورة العنكبوت ٢-٣
٢- سورة النحل ٩٦
٣- الراوي:أبو ثعلبة الخشني- المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم: 3172 خلاصة حكم المحدث: صحيح لغيره.
٤- الراوي أنس بن مالك - المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم: 2382 - خلاصة حكم المحدث: صحيح.
٥- الراوي: عبدالله بن عمرو - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 1590 - خلاصة حكم المحدث: صحيح.
٦- الراوي: أبو هريرة - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم: 2394 - خلاصة حكم المحدث: صحيح.
٧- الراوي: أنس بن مالك - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 1307 - خلاصة حكم المحدث: صحيح.
٨- سورة ال عمران ٢٠٠